الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كيف أصبحت آلام أهالي المعتقلين في سوريا تجارةً تدر الملايين؟ 

كيف أصبحت آلام أهالي المعتقلين في سوريا تجارةً تدر الملايين؟ 

06.07.2021
ساسة بوست


ساسة بوست 
الاثنين 5/7/2021 
ليست مأساة عادية ما يعيشه أهالي المعتقلين في سجون النظام السوري؛ فهم محكومون بالأمل عسى أن يكون من في غياهب السجن على قيد الحياة، ويتحسسون أخبار من غابوا عنهم بلا وداع لعلهم ينالون خبرًا ينهي حالة الانتظار، ويرقبون باب البيت، أو زغاريد الحي معلنةً دخول الفرح إلى بيوتهم بعد سنوات من الشقاء، أو معلنة نهاية الترقب وإغلاق باب الأمل. 
"بس بدي أعرف ابني عايش أو ميت، وما بدي شيء ثاني، الوضع يلي نحن فيه عذاب، لا عارفين شيء عنه، ومش قادرين نسأل، ما في أصعب من أنك تعيش على أمل أضعف من الضعيف"، هذا ما قاله لنا أبو علاء الذي لا يعلم أي شيء عن ابنه المعتقل في سجون النظام السوري منذ عام 2012، فلا شيء يقتلهم أكثر من عدم معرفة أين ذووهم، يسألون "هل هم فوق الأرض أم باتوا تحتها؟". 
هذه الأوجاع والآهات والصرخات أصحبت تجارة رابحة تدر ملايين الليرات السورية في جيوب بعض المحامين الذين امتهنوا الضرب على أوتار الألم، يجمعون الجماهير حولهم، ويأخذون منهم أموالهم، ويعطونهم الأمل الزائف الذي سرعان ما يتحول إلى ندم. في هذا التقرير سنتحدث عن محامين يبيعون الوهم لأهالي المعتقلين مقابل المال، سنتحدث عن دموع الأهل في انتظار ذويهم. 
المسالخ البشرية 
تصف منظمات حقوقية وهيئات دولية السجون السورية بـ"المسالخ البشرية" التي يعذب ويقتل فيها آلاف المدنيين؛ إذ يقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل أكثر من 104 ألف شخص تحت التعذيب، بينهم أطفال ونساء منذ 2011، كما يعيش السجناء أوضاعًا إنسانية غايةً في السوء؛ حيث يموت الكثير منهم بسبب الأمراض وسوء التغذية. 
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان استخدام النظام السوري لـ72 أسلوب تعذيب في سجونه بحق المعتقلين، من بينها الصعق بالكهرباء، والإغراق، والخنق، والحرق، والضرب، وغيرها، ولا يوجد أي ناج من هذه السجون إلا وقد تعرض لأحد هذه الأساليب، أو عدد منها. 
وحسب الشبكة ذاتها فإن ما لا يقل عن مليون و200 ألف شخص قد دخلوا سجون الأسد وذاقوا أهوال التعذيب فيها، وهناك شهادات كثيرة لناجين من هذه المعتقلات يتحدثون فيها عن تجربتهم التي حفرت في ذاكرتهم ولن ينسوها أبدًا، بينما لم يزل أكثر من 131 ألف معتقل في سجون النظام حتى هذه اللحظة، بينهم مغيبون قسريًا، لا يعرف أحد إن كانوا أحياءً أم أمواتًا. 
"الموتى الأحياء".. معاناة ذوي المعتقلات في سجون بشار الأسد 
تخضع السجون العادية في سوريا لإدارة وزارة الداخلية بشكل مباشر؛ إذ تديرها الأجهزة الأمنية المختلفة، وتنقسم السجون إلى ثلاث فئات (فروع، وأقسام، ومخافر)، ولكل محافظة سجنها الخاص بها، وهذه السجون في الغالب سجون مدنية يسمح بالزيارة فيها والتواصل مع الأهل، وجميع المسجونين فيها تكون لهم مدة محددة للعقوبة يخرجون بعدها، وغالبية قاطنيها من أصحاب الجنايات، أو المخالفات القانونية، أو من جرى اعتقالهم للاشتباه من بعيد في معارضتهم للنظام، أما ما يتعلق بالمعارضين السياسيين، أو من يشتبه أنه حمل السلاح في وجه النظام، فغالبية هؤلاء يكونون في سجون سرية، أو في سجون الأفرع الأمنية والمخابرات، أو سجون سيئة الصيت، مثل سجن صيدنايا. 
يقول المحامي عبد الناصر حوشان، عضو مجلس فرع حماه المحامين الأحرار: إن "السمسرة والرشوة والفساد هي السمات الرئيسة للنظام السوري، والقضاء أحد هذه المؤسسات الفاسدة لعدة أسباب، منها أن تعيين القضاة يكون عن طريق الانتماء الحزبي أولًا، ثم الواسطة عن طريق دوائر النفوذ المعروفة (قصر جمهوري، أو مخابرات، أو قيادة قطرية)، أو عن طريق الرشوة بمبالغ هائلة". 
ويضيف حوشان في حديثه لـ"ساسة بوست": "شبكات السمسرة والرشوة تبدأ من موظفي المحاكم، أو ضباط الشرطة والأمن، حيث يتوجه المواطنون نحو محامين محدّدين، وهم حلقة الوصل بينهم وبين القضاة، وقد يكون هؤلاء المحامون أولاد مسؤولين، أو أولاد ضباط مخابرات، وقد يكونون قضاة أو ضباطًا سابقين، إذ ترتبط هذه الشبكات بمجموعات موزعة بين المحاكم العسكرية، ومحاكم الإرهاب، والقصور العدلية في المحافظات". 
"مستعد أبيع كل شيء كرمال أعرف وين ابني" 
مهنة المحاماة من أنبل المهن في نظر المجتمعات؛ لما لها من مهمة سامية في رفع الظلم وإحقاق الحق، ولكن في سوريا تحول بعض المحامين إلى سماسرة يفتحون مكاتبهم لاستقبال من يبحث عن أحبابهم في سجون النظام السوري، وهذه السمسرة باتت تدر ملايين الليرات السورية عليهم وعلى القضاة، وضباط النظام العسكريين والأمنيين، وامتهنها العشرات في مختلف المحافظات السورية. 
النساء في سجون "بشار الأسد".. راقصة ومُناضلة وربة منزل 
في محافظة درعا (جنوب سوريا) تواصلنا مع سليمان أبي وسام، والد أحد المعتقلين في سجون النظام منذ 2013، والذي اختفى منذ ذلك الوقت، ولا يعلم عنه أي شيء، يقول "تواصلت قبل سنة تقريبًا مع محام، وطلبت منه البحث عن ابني وسام، ولكنه طلب مني دفع 3 آلاف دولار، كي يبدأ بعملية البحث فقط، ودفعتها له، وبعد أسبوع وبكل سهولة يقول لي إنه لم يجد ابني، وهو غير مسجل في سجلات السجون، ولم أصل لأية نتيجة معه في إعادة المبلغ أو جزء منه، وسقطت مرة أخرى في شراك محام آخر، وفقدت مبلغ 1300 دولار، حيث قال لي إنه قد وجد ابني في سجن القابون، وطلب مبلغ 20 مليون ليرة سورية (حوالي 8 آلاف دولار) لإخراجه، وأنا لا أملك هذا المبلغ حتى لو بعت كل ممتلكاتي، وأفكر بشكل جدي أن آخذ دَينًا بهذا المبلغ من معارفي حتى أخرج ابني". 
سألنا الرجل عن إمكانية أن يسقط مرة أخرى في شراك النصب، ويذهب ماله مع الريح، فأجاب "وأسقط مرة ومرتين و20 مرة، غير مهم، وأعرف أن كل المحامين الذي يعملون في هذا المجال نصابين، بس بدي اطلع ابني من الجحيم يلي هو فيه، بدي أشوف ابني جنبي، صار لي من 2013 ما بعرف عنو اشي، لعل وعسى أن يصدق هذا المحامي أو ذاك". 
تواصلنا أيضًا مع السيدة أم خالد السيد من ريف دمشق والمتواجدة حاليًا في ريف ادلب بعد تهجيرها إبان سيطرة النظام السوري على مناطقهم في 2018، وهي أم لمعتقل في سجون النظام السوري منذ عام 2016، حيث خرج ابنها لإكمال دراسته في جامعة دمشق، ولكنه اعتقل فور خروجه من مناطق المعارضة. 
وتقول أم خالد لـ"ساسة بوست": "قبل تهجيري من الغوطة الشرقية تواصلت مع محام قيل لي إنه يقوم بإخراج المعتقلين، أو على أقل تقدير يعرفنا بمصيرهم، ودفعت له مبلغ 350 دولار، وعاد لي بعد أسبوع يخبرني أن ابني موجود في فرع الأمن العسكري، وهو على قيد الحياة، وفي حال أردت إخراجه فعلي أن أدفع 20 ألف دولار على دفعات، بحيث أدفع ربع المبلغ في البداية، والباقي عندما يخرج من السجن". 
تضيف أم خالد "لم أكن أملك هذا المبلغ، فقام أهلي وأقاربي بجمع ربع المبلغ المطلوب، وأعطيناه للمحامي، وبقي أكثر من شهرين يسوف ويؤخر ويبرر بأن المبلغ الذي دفعناه غير كاف، لذلك طلب المزيد، وهنا علمنا أننا وقعنا في شراك النصب والاحتيال، ورفضنا إعطاءه المزيد". 
"الألم الحقيقي أننا لا نعرف هل هم على قيد الحياة أم فارقوها، صعوبة الانتظار تجعلنا نتعلق بأي بصيص أمل"، هكذا قال أبو علاء، والد معتقل في سجون النظام السوري تحدث لـ"ساسة بوست" عن وقوعه في مكيدة من قبل محام بمبلغ كبير جدًا، حيث اضطر إلى بيع منزله وذهب زوجته في سبيل معرفة مصير ابنهم. "مستعد أبيع كل شيء كرمال أعرف وين ابني، بدي أعرف ميت ولا عايش، حاولت أطلعه من الجحيم يلي هو فيه، ويا ريت لو عرفت شيء عنه، وما خليت طريقة، ولكن لم يتم الأمر، ضاع كل شي وما ضل معي شيء". 
يذكر المحامي عبد الناصر حوشان قصة وثقها بنفسه، أن "أحد المحامين السماسرة طلب مبلغًا خياليًا من والدة معتقل كي تتمكن من زيارة ابنها في سجون النظام، فجمعت أولادها السبعة وطلبت منهم بيع كل ممتلكاتهم، ولما جمعوا المبلغ ذهبت إلى السمسار، وأوصلها إلى مدير السجن الذي أخذ منها المبلغ، وهنا قال للسيدة أن تذهب إلى مكتب دفن الموتى في مدينة حمص، وتسأل عن شخص يدعى فلان، وتخبره أنها من قبله، وأنه سيدلها على قبر ولدها". 
على الرغم من ألم السيدة بفقد ابنها، غير أنها علمت مصيره أخيرًا، وهذا ما تتمناه أكثر العائلات التي لا تعرف أي شيء عن مصير ذويهم، وربما تكون معرفة أن معتقلهم قد فارق الحياة راحة لهم من ألم الانتظار والترقب الذي ربما لن يأتي إلا بنفس النتيجة، فالخارج من سجون الأسد مولود، والداخل إليها مفقود، وقد قال الكثيرون ممن خرجوا من جحيم المعتقلات إنهم كانوا يتمنون الموت داخل السجن. 
هناك عدد من الحالات القليلة جدًا التي تمكن فيها المحامون من إخراج المعتقلين من سجون النظام السوري، وفي حال نجح المحامي في إخراج معتقل فهو بهذا الأمر قد بدأ بحملة إعلانية ودعائية كافية كي تأتي الطلبات عليه من كل حدب وصوب، وغالبًا ما يبدأ بعدها مشوار الاحتيال على الأهالي. 
تواصلنا في "ساسة بوست" مع ثلاثة من المحامين الذين يعملون في مجال سمسرة إخراج المعتقلين، ولكن لم يتجاوبوا معنا على الإطلاق، وعلى ما يبدو فهم حريصون على عدم التواصل مع أرقام اتصالات خارج سوريا، وانتظرنا أكثر من أسبوع، ولكن دون جدوى، ولم نتلق أي رد من قبلهم. 
يشير المحامي عبد الناصر حوشان، وهو الذي عمل في المحاكم العسكرية قبل الثورة السورية لمدة 10 سنوات، في حديثه لـ"ساسة بوست": إن "محاكم الإرهاب هي الأكثر فسادًا؛ لأنها تعطي صلاحيات مطلقة للقضاة، وهي الميدان الأكثر ابتزاز واستغلالًا للمعتقلين، وتصل المبالغ التي يحصل عليها المحامون والقضاة إلى عشرات الملايين، على الرغم من أن أغلب موقوفي محاكم الإرهاب لا يُخلى سبيلهم، بدليل أن هناك أكثر من 100 ألف قضية منظورة لم يُخلَ سبيلُ غير عدد قليل جدًا لا يذكر، وهم أبرياء في الأصل". 
ومن خلال الحديث مع بعض الحالات التي تعرضت للنصب، يبدو أن هؤلاء المحامين لا يمثلون أنفسهم فقط؛ فقد يكونون أعضاء في شبكة أوسع. يقول السيد عمر الحريري، مسؤول مكتب توثيق الشهداء في درعا: "إن المحامين يكونون حلقة وصل بين أهالي المعتقلين وبين ضباط من النظام والقضاة في المحاكم المختلفة، فهم بذلك يعملون كسماسرة فعليين، ولكن في آلام الناس وأوجاعهم، حيث يتقاسمون الغنائم بنسبة متفق عليها بينهم". 
ويضيف الحريري لـ"ساسة بوست" "هؤلاء المحامون حذرون جدًا في التعامل مع الضحايا، فعلى سبيل المثال هم لا يتواصلون مع أشخاص خارج سوريا، ولا يتعاملون إلا بالتواصل المباشر، ويضعون شروطهم على الأهالي بدون تقديم أي ضمانات بإخراج ذويهم من السجون، أو حتى ضمان حقهم في المطالبة بأي مبلغ من المال، ويفرضون على بعض الأهالي توقيع سندات مالية، بحيث يستطيعون أخذ منازلهم وممتلكاتهم أيضًا، فيضاف ألم الفقر إلى ألم الفقد". 
يأخذ بعض المحامين جميع المبالغ لأنفسهم، ويعملون على ابتزاز الأهالي لطلب المزيد، دون القيام بأي شيء لإخراج ذويهم من المعتقلات، وهنا تظهر المشاكل بين المحامي، والضباط، والقضاة الذين لا يأخذون حصتهم من عمليات النصب هذه، إذ يشير السيد حوشان إلى أن هناك "تسلسلًا هرميًا لشبكات الفساد، والرشوة، والابتزاز، والاحتيال، وهذه الشبكات تختلف قوتها من شبكة لأخرى، وقد تختلف على تقاسم النفوذ، أو تختلف على طريدة، أو على ضحيّة، فيدبّ الخلاف بين أفرادها، وتكون الوشاية، أو الإخبار عنها إلى قضاء النظام". 
وعليه فإن النظام السوري يعلن بين الفينة والأخرى عن اعتقال عدد من المحامين الذين يمتهنون النصب والاحتيال، ومن بين التهم الموجهة لبعض هؤلاء: النصب على مواطنين في سبيل إخراج ذويهم بمبالغ مالية كبيرة جدًا، ولكن كما ذكرنا يبدو أن غالبية هذه الاعتقالات تكون ضمن مشاكل داخل الشبكة نفسها التي تستغل الضحايا. 
وتبقى الحقيقة أنه من الصعب جدًا التنظير على أهالي المعتقلين وتحذيرهم من التواصل مع السماسرة حتى لا يقعوا في شراك النصب؛ فكما يقول المثل "من يده في الماء ليس كمن يده في النار" و"الغريق يتعلق بالقشة"، ومهما حذرنا وكتبنا تقارير صحافية، وحكينا قصص وروايات في هذا الموضوع، فإن أهل المعتقل لا يستطيعون إلا أن يبحثوا عن بصيص أمل حتى لو كان سرابًا.